الأزمات وظلال البؤس

الأزمات وظلال البؤس

” إنني أشرع الآن في تدوين تاريخ فترة غنية بنكباتها ، جهمة بحروبها ، ممزقة باضطراباتها ، ووحشية حتى في ساعات أمنها . المدينة تجتاحها النيران ، والمقدسات تستباح كل يوم ، والفجور يملأ حياة الصفوة من الناس . البحار تكتظ بالمنفيين ، وصخور الجزر نفسها ملطخة بالدماء . حمى هوجاء سادت المدينة ، وكل شيء جريمة : النبل ، والشرف ، والجاه ، والمال ، وقبول المناصب أو رفضها – كلها جريمة . أما الفضيلة فهي الطريق المؤكدة للدمار …”

 تبدو الفقرة السابقة مألوفة حد الدهشة ، معبرة حد الذهول،  وواقعية وصادقة حد المرارة والألم . وكأنها ترينا صورة لزمننا وحياتنا في مرآة كاشفة تسقط الضوء على دقائقها، ولذع وقسوة أوجاعها، وجموح أنوائها وتقلباتها !.. وكأنها كتبت عن الفترة الزمنية التي نعيشها حاليا في عالمنا العربي ” السعيد “، وكأنها  تتحدث عن مدننا المنكوبة بأزمنة الجنون والكراهية والطائفية والعبث والفوضى والجماعات الإرهابية والتفجيرات والنحر والذبح والحرق وأكل الأكباد واجتثاث الأرواح !.. عندما يصبح اللامنطق سيدا على العقل والمنطق ، وعندما يتجلى حلم الخلاص في سفينة قد تأخذ المهاجر إلى حتفه .. ولكنها حتما سترحمه وتكون به أرفق من معاشرة الجنون ، ومعاقرة الواقع وبؤسه وسوداويته !

الفقرة الآنفة الأولى التي توقفت أمامها كثيرا وأنا اقرأها ليست إلا افتتاحية كتاب تاسيتوس ، إذ شرع في تدوين تاريخ روما قبل حوالي ألفي سنة ، وهي تدور على لسان الكاتب علاء وهو يحاور بطله رياض في رواية ( عالم بلا خرائط ) التي كتبها المبدعان عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا . يترجى البطل رياض مؤلفه حتى لا يجعل منه شخصية في تلك البلاد ،  بل ولا حتى عابر سبيل في مدينة تجتاحها النيران وتستباح فيها المقدسات كل يوم ! ولكن رياض في النهاية ليس إلا شخصية ورقية ، تنحت ملامحها وخطوطها الحروف والكلمات ، يبدعها المؤلف ويملك بيده مصيرها المفتوح على كل الاحتمالات ، ” بينما الواقع أشد غرابة من الأدب وذلك لأن الأدب ملزم بالخضوع للاحتمالات .. على عكس الواقع ” كما يقول مارك توين .

قد يتخلص رياض من مصير بائس كتبه عليه مؤلفه ، ولكن يبقى الإنسان العربي يصارع واقعه،  ويقتات على بؤس أيامه ، ويعتاش على ذوائب حلم .. يرن في أذنيه بأن لابد لليل الطويل من صبح يقشع صلدة سواده ، ولابد للنفق المظلم الطويل من نهاية تخرج به إلى النور .

ظل المثقف العربي في حالة تشبه الذهول بعيد الانتفاضات التي اجتاحت عالمنا العربي ، فهو لم يكن شريكا في صناعتها ، ولا حتى منظرا لها ، بل رآها تسقط عليه من سماوات العوالم السيبرانية وتولد من رحم المفاجأة ، ومن تلافيف الشعور الممض بهدر الكرامة ، وبعدم وجود مايخسره شباب الثورات الذين انطلقوا يهزون الأرض بأقدامهم ويشقون عنان السماء بصرخاتهم الثائرة . لم يلبث المثقف أن تشبث بالحلم وتلفع بالأمل بواقع جديد مختلف ، حافل بمفردات طالما تشوف لها ودوزن شعاراته على ترانيمها، فخالجه الأمل وظن أنه قاب قوسين أو أدنى من الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية والمشاركة الشعبية . ليكتشف أن الربيع المزعوم تحول إلى كابوس طائفي بات يجثم على صدورنا جميعا ويهددنا بحرق الأخضر واليابس ، وتحويل أوطاننا العربية إلى كانتونات طائفية تفتتها الكراهية والصراع والأحقاد ! ولعلّ خرس الأقلام وصمتها في هذه الحالة مشروعا ، فما يحدث مربك حد الذهول والفجيعة  ، ومايحدث يجعل الدهشة والحيرة تعقد ألسنة الأقلام وتعيق تدفق الكلمات .  فهل تستطيع كلمات العالم بأسره أن تجيب على أسئلتنا المعلقة في الفضاء والتي تتلوى بحثا عن إجابات ؟! وماذا تفيد الكلمات عندما تقتل الأحلام في الأحداق وتجهض المنى وهي بعد في مهدها ؟! وماذا تفيد الكلمات في عالم يبدو أنه فقد الرشد ، وعقُمت فضاءاته عن استيلاد معاني للأشياء ؟! ماذا تفيد الكلمات وقد أصيبت بقعتنا التعيسة من الأرض بلوثة الكراهية والصراعات والدماء والقتل وشهوة السلطة والاستبداد ؟! ماذا تفيد الكلمات حين يتساوى الخير بالشر ، والفضيلة باللافضيلة ، والصدق بالكذب ، والوطنية بالمتاجرة بالأوطان ، والشرف بالخيانة ، ومرتزقة الإعلام بالأقلام الحرة ، والدين بالمتحدثين باسمه وهو منهم براء ؟!

والسؤال هل يستطيع الأدب والإبداع أن يكون استباقيا للواقع ومستشرفا للمستقبل في ظل كل هذا الكم  من الفوضى والجنون وعدم الاستقرار وانعدام الوثوقية الذي نغرق فيه اليوم! فكل ماحولنا يقول أنه يصعب على المثقف قراءة واقع متأرجح ملتبس عبثي حد الجنون ، ليخرج منه بخلاصة موثوقة يقدمها كوجبة لقرائه ومتابعيه تساهم في قشع ضبابية الصورة وإجلاء ما غمض منها . فكل الأمور والوقائع والأحداث تبدو متأرجحة وزئبقية ، وعصية على القراءة ناهيك عن التمثل والفهم ! لعلّ الإبداع يبدو ترفا في ظل هذه الظروف ، التي يرى فيها الكاتب أن مهمته الأولى هي تأسيس الوعي وبذر المحبة ونقض وتفكيك خطاب الكراهية . ولكن تبقى للابداع دوما طرقه وأساليبه  التي يحاول بها التحايل على بؤس الواقع ، واجتراح فضاءات وأجناس جديدة من وسائل التعبير . وكما ولد من رحم الحرب العالمية الثانية مسرح وأدب اللامعقول ، قد يستولد لنا هذا المخاض ألوانا جديدة من التعبير ، تتساوق مع عذابات المرحلة وشدة أنوائها !

 في عتمة كل هذا البؤس  يبدو الاحتفاظ بالأمل والتفاؤل فعل مقاومة ، يقوم به الكاتب أو المبدع ليتحدى العبث الذي لايفتئ يقذف عليه غرائبه وعجائبه ! وهنا يبدو الإمساك بالقلم وإطلاق سراح الكلمات ، واستمطار الأمل وانتزاع الحلم من براثن اليأس واللاجدوى فعل بطولة يستحق الإشادة ، لابد أن تقوم به الأقلام الصادقة لتحاول بث الأمل وحقن الجمهور بالقدرة على الحلم .. لابد  من استحضار قوة الكلمة وقدرتها على صناعة التغيير ، فلا شك أنه في البدء كانت الكلمة !

وأختم بمقولة الكاتب الروسي انطون تشيكوف :” أكتب لأبين للناس كم هي سيئة ومملة حياتهم ، فحينما يدركون ذلك سيسعون حتما لتغييرها .. ولن أكون شاهدا على ذلك التغيير “

أمل زاهد

http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4636رابط المقال في المجلة العربية

أضف تعليق