المرأة السعودية والصورة الفوتوغرافية

المرأة السعودية والصورة الفوتوغرافية !

يتنامى عدد السعوديات اللواتي ينشرن صورهن في وسائل الإعلام ومواقع التواصل يوما بعد يوم، فيما يبدو تفكيكا أو زحزحة لمفاهيم سلبية ارتبطت دوما بنشر المرأة لصورتها في ثقافتنا. ويعود في تقديري هذا التغيير – النسبي – في الفكرة النمطية عن الصورة لعدة عوامل فرضها -بداية – عصرنا السريع الايقاع الذي يتسم بالتغييرات الجامحة ، وعدم الثبات،  واهتزاز القيم الاجتماعية وذوبانها،  وعدم قدرتها على الصمود في وجه رياح العولمة العاتية، والتغييرات الثقافية المصاحبة لها . من خلال تعددية روافد المعلومة وسهولة نقلها ونشرها، والتي أتاحتها ثورة الاتصالات والفضاءات الرقمية المفتوحة ، تم تفكيك الرأي الأحادي القائل بتحريم كشف الوجه ، وبالتالي سقطت قدسية تحريم نشر صورة المرأة ، عند شريحة من النساء . من جانب آخر فإن هيمنة الصورة وسطوتها على المشهد الإعلامي اليوم ، ساهمت أيضا في تحفيز المرأة على نشر صورتها ، إذا ما أرادت حضورا أقوى وأكثر فعالية وتأثيرا .ساعد أيضا انتشار الهواتف الذكية ، وسهولة التقاط الصورة ونقلها وتسريبها في كسر حاجز الخوف ، وفرض نشر الصورة كأمر واقع وحتمية طبيعية ، فرضتها تحديثات العوالم الرقمية والفضاء السيبراني الذي أصبح جزءا من الحياة الاجتماعية نفسها. ساهم أيضا الشغف والولع بمواقع التواصل الاجتماعي ، والرغبة في الظهور فيها وتأكيد الهوية عبرها ،- وذلك لما تشحنه في الفرد من تعزيز للايجو وشعور بالأهمية والفرادة والتميز – في تحطيم حاجز التردد والخوف من نشر الصورة . فرأينا شريحة من السعوديات لا يترددن في نشر صور ومقاطع فيديو لهن على مواقع التواصل بما فيها السناب شات ،  الذي يحظى برواج كبير حاليا ، حتى يظهر ما يسحب البساط من تحت أقدامه . وتظل هذه المواقع ميدانا للتسابق والتنافس لشد الانتباه ولفت النظر ، فيما تتفتق عقول أباطرة صناعها كل يوم بالجديد القادر على جذب الناس رجالا ونساءً للانضمام لروادها ، والحضور والتواجد من خلاها .

رغم كل هذه المستجدات فإن قضية صورة المرأة تغور عميقا في الثقافة ويظل تفكيكها نسبيا وظاهريا ، فقد شكل – ولا يزال يشكل – خروج صورة المرأة السعودية الفوتوغرافية على الملأ هاجسا مرعبا لشريحة كبيرة من النساء في مجتمعنا ؛ فخروج هويتها المتجسدة في قسمات وجهها وملامحه لا يزال يعتبر نوعا من الفضح أو هتك الستر ! ومفهوم الفضح وهتك الستر يغرس ويجذر في اللاوعي الجمعي ويلقى في روع الطفلة منذ نعومة أظفارها ؛ ويظل يلتف حول عنقها ويحفر بآثاره العميقة داخلها ؛ فتتعامل مع ذاتها وهويتها وصورتها وأحيانا اسمها بل وكينونتها بأكملها من منطلق الشعور بالذنب والخوف من جلب العار على أهلها وذويها !. إنه الوأد النفسي والمعنوي للكيان الأنثوي ، والذي يستدعي إبعادها جسديا عن الفضاء العام، بل والحرص الشديد على إخفاء وإبعاد كل ما يرتبط بها ويدلل على هويتها وشخصيتها من ذلك الفضاء ، كاسمها ، أو صوتها،  والأهم والأقوى دلالة بطبيعة الحال: صورتها ! إنه النفي داخل الفضاء الخاص وفي سجن الذات المثقلة بحمولات الذنب والخطيئة ، من هنا يتموضع تغييب الصورة الفوتوغرافية للمرأة والحرص الشديد -الذي كثيرا ما يصل للرعب- على عدم ظهورها  كرمز عميق الدلالة على مفهوم النفي والإبعاد من جهة  ، وعلى مفهوم الفضح وهتك الستر في حال ظهور الصورة من ناحية أخرى ! ومن هنا أيضا فإن تغييب الصورة الفوتوغرافية -بما هي دالة على الحضور والتواجد “الأولي ” في الفضاء العام -، يصبح  شرطا ضروريا لإغلاق المنافذ على ذلك الحضور الباعث على الفضح وهتك الستر ، والذي يدشن بالصورة بداية، لتكرّ السبحة بعدها بباقي تجليات الحضور الأخرى  !

ولخلع ثوب القداسة على إخفاء صورة المرأة وحجبها ؛ يتم التوسل بقراءة وفهم أحادي لتعاليم الدين يؤكد على تحريم كشف وجه المرأة ، بينما يتم التعتيم على قراءة أخرى يتبناها جلّّ العالم الإسلامي ، والتي لا ترى حرجا في كشف الوجه ! وهنا تتضح أهم أسباب وبواعث الممانعة الاجتماعية الضارية لإرفاق صورة المرأة في الهوية الوطنية ، وما تلاه من محاولات ابتكارية لتغطية الصورة وحجبها بعد فرض القرار السياسي للأمر . فيما لاتزال مكاتب ضباط العدل تلصق ورقة دائرية لتغطي وجه المرأة في الهوية الوطنية ؛ وذلك رغم أهمية التحقق من شخصية المرأة ، ورغم ما قد يحدث من تلاعب نتيجة لعدم التحقق ، والذي حاولوا معالجته أخيرا بموضوع البصمة .

يحمل نشر الصورة بعدا رمزيا دلاليا – عند أنصار التجديد – على الانفتاح والرغبة في التحرر من أسر العادة وقيد التقليد ، والاعتزاز بالهوية والتي لاشك أن الصورة وتقاسيم الوجه هي بؤرتها وأبرز معالمها . في ذات الوقت وعلى شاطئ التقليد يحمل نشر الصورة دلالة رمزية شديدة السلبية تماثل الوصمة والعار ، فالمرأة هنا  تغريبية ، أو ليبرالية ، أو علمانية،  إلى آخر التصنيفات النمطية المعلبة المعهودة مع ما تستدعيه  – التصنيفات – من إطلاق للتهم على عواهنها واستباحة معنوية ؛ حتى لو حرصت صاحبة الصورة على الالتزام بالحجاب وكافة اشتراطات المحافظة . وتحضر الاتهامات النمطية  هنا كإجراء شرطي بمعية الصورة ، لتلعب دور الرادع لكل من تسول لها نفسها نشر صورتها . فيما يستمر هذا الرادع في لعب دوره المهدد لسمعة المرأة ليصبح ضابطا ذاتيا صارما لدى المرأة نفسها ، فترفض هي ذاتها نشر صورتها مدافعةً بضراوة عن التقليد ! كما تحرص الثقافة على استمالة المرأة وجذبها إلى منطق الشطب والتغييب بأوصاف ظاهرها التثمين والتقدير وباطنها التبخيس والتشييء ؛ فهي درة مصونة وجوهرة مكنونة  لابد من إخفاءها وحجبها خوفا عليها ، ولكنها في ذات الوقت لا ترقى لمرتبة الإنسان الحر المالك لنفسه وقراره ومصيره ، بل ليس لها حق اختيار إظهار هويتها أو إخفاءها لأنها لا تمتلك نفسها في المقام الأول ! تتماهى المرأة مع هذه الثقافة التي تشطب كيانها وتلغي وجودها ، لتلعب دورا مازوشيا تقع من خلاله في هوى الثقافة التي تجلدها وتبخسها ، فتتوحد معها وتستمد منها الشعور بالقيمة والأهمية ، وهنا تسبل على نفسها أثوابها وتفسيراتها وقراءاتها  متباهية متفاخرة ، رغبة في الاستقواء والحماية من جهة ، وطمعا في الحصول على القبول والرضا والاعتراف ، الذي حتى لو كان مشروطا ، إلا إنه خير من النبذ الكامل خارج فردوس القبول الاجتماعي .فيما تتعوشب نبتة الخوف وتمد جذورها داخل المرأة ، فتحمل ” وصمة ” أنوثتها وتتعامل مع ذاتها من منطلق ” العورة ” التي ينبغي دوما تغطيتها وسترها حتى لا تجلب العار على الأسرة كلها بل والعصب بأكمله .

تشكل العصبية اللبنة الأم في تكوين المجتمع البطركي الأبوي ، وغني عن الذكر أن المرأة هي مركز العصبية والنار التي تشعل جذوتها ، والرمز الأشد دلالة وقوة على احتفاظ العصبية بعنفوانها وقوتها واشتراطاتها الأولية وبنيانها الأساس النقي من الشوائب ، ولذا تحرص العصبية على تسييج المرأة داخل أطرها ، وفي قضبان القبول المشروط والطاعة المطلقة لقيم العصبية وإلا نبذتها الأخيرة خارج جنتها ! فيما تتنازع المرأة وتتجاذبها ثنائية التقديس\التأثيم ، فترتفع إلى منزلة التقديس والمكانة الرفيعة إذا ما ألتزمت باشتراطات العصبية ، وإلا رميت في أتون التأثيم والشيطنة وكافة مفردات الاستباحة المعنوية إذا ما تجرأت على الخروج على قيم العصبية وثقافتها ، فخروج المرأة هنا على القيم الاجتماعية يصيب الذات العصبية في عمقها النرجسي بجرح يصعب البرء منه .

من زاوية أخرى يعطي حجب الصورة وإخفاءها المرأة فرصة لاستراق فرجة تستطيع معها مراوغة الثقافة الصارمة وقيم التقليد ، مستخدمة ذات السلاح الذي تستخدمه الثقافة في نفيها وشطبها، فتحت جناحي التخفي لا يمكن التعرف على هويتها الحقيقية ، ولا يمكن بأي حال إدانتها فهي هنا كيان زئبقي مجهول لا ترتبط هويتها بملامح ، ولذا قد تنتحل اسما أو شخصية مغايرة في مواقع التواصل لتقول ما يحلو لها من آراء جريئة بعيدا عن سطوة الثقافة .وحتى في حالات التصريح بالاسم الحقيقي، فإن التخفي هنا وراء ستار الحجب والرؤية وعدم الارتباط بملامح ، قد يحقن المرأة بالشجاعة والجرأة في التصريح بالرأي كعامل نفسي تعويضي عن الحضور الكامل ، وكعامل تحدي للثقافة الطاردة للمرأة ، برفع الصوت عاليا بالرأي الشجاع الصريح الذي يؤكد الوجود ويثبته حتى لو كان من وراء ستار .

كما يلعب التخفي والغموض على أوتار الخيال عند الرجل ، وكعنصر جاذب في العلاقات ” المعقدة وغير السوية ”  بين الرجال والنساء ، على عكس الإظهار والوضوح الذي يكبح جماح الخيال  ، لتمارس بعض النساء ألاعيبهن بإظهار صورة مغرية للعينين -قد لا تكون لصاحبة الحساب نفسها في مواقع التواصل -، أو لتضع لقطة لجزء من الجسد كما نراها في بعض الحسابات التي تزعم أنها لفتيات سعوديات خاصة في الانستجرام ! وهنا يتضح كيفية تحول الحجر والمنع إلى قوة دافعة للتمرد على كافة الأطر التقليدية في حال الابتعاد عن أعين الرقيب ، أو في حال الابتعاد إلى منطقة (افتراضية)  نائية لا يستطيع  فيها – الرقيب -أن يمارس سطوته ويفرض عقوباته ! وهنا نستطيع أن نضع أيدينا على المفارقة الصارخة التناقض التي تحول المبالغة في الحجب والإخفاء ، إلى مبالغة في الكشف والإظهار ، مما يؤكد تجذر النظرة التشيئية للذات عند المرأة نفسها ، فلا تستطيع أن تنظر لذاتها وكينونتها إلا من خلال تلك النظرة التي غذتها الثقافة بها.

تشجع الثقافة والقيم الاجتماعية أيضا على تكريس النفاق واستمراء النمط الازدواجي في الممارسات الحياتية ، فما هو جائز مقبول ولا حرج فيه خارج المملكة ، تابو محرم ويستحيل قبوله في الداخل ! فكما هو معلوم فإن شريحة كبيرة ممن يكشفن وجوههن خارج المملكة ، لا تزال الصورة الفوتوغرافية تدخل في طور المحرمات  بالنسبة لهن في الداخل، حرصا على العائلة والعصب أو خوفا من القيل والقال ، وقد تكون رغبة في استثمار وحصد المنافع الناتجة عن البقاء في حظيرة التقليد من جانب آخر ! بل إن شخصيات عامة تتقلد مناصبا اعتبارية ، وتُعرف بتوجهها التحرري ( الليبرالي ) ، لا تستطيع أن تنشر صورها الفوتوغرافية رغبة في احتواء غضب تيار التقليد ، وامتصاص الرفض الاجتماعي من جهة  ، وخوفا من سياط الألسنة ورجم الثقافة، والإدراج تحت تصنيفات منبوذة من الشريحة الأكبر في المجتمع من ناحية أخرى !

لكل الأسباب الآنفة المذكورة في  مقالي ، من منا من النساء السعوديات لم تنمو داخلها بذرة الخوف- بل والرعب – من تسريب صورة لها لا تعلم عنها  ؟! أو أخذ لقطة لها على حين غرة ومن حيث لا تدري لتسقط في بئر العار العميقة القرار ؛ حيث يلفظها المجتمع وتزدريها الثقافة ؛ فقد انتفت عنها صفة العقل والرصانة وانضمت لحزب المستهترات غير المباليات بالسمعة .. وما أدراك ما السمعة في مجتمعات تختزل الشرف في أجساد نسائها ، وتبقى المرأة فيها موضوعا جنسيا مهما تقدمت في العمر ، أو مهما بلغت من مركز علمي أو مكانة اجتماعية ! .. لهذا تحتاج المرأة إلى استجماع الكثير من الشجاعة والثقة بالنفس لتنشر صورتها ، كونها تعلم مسبقا ما سيجره ذلك عليها من تبعات !

ورغم أن المرأة تظل مسكونة بكثير من هذه المخاوف المتجذرة في عقلها اللاواعي ، إلا أن  التغيير يفرض نفسه ،والمستقبل سيحمل لنا مزيدا من التفكيك لقضية الصورة وحضور المرأة السعودية في مشهدنا الاجتماعي الثقافي .

أمل زاهد

 

 

خطاب المرأة والتحديات الجديدة !

خطاب المرأة والتحديات الجديدة !

مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة – وفي الحياة من حولنا-، نواجه فتيات يطرحن أسئلة حائرة عن كينونتهن وطبيعة أدوارهن. بل قد نجد من ترفض أنوثتها نتيجة لشعورها بالتمييز الممارس ضدها من الثقافة والمجتمع والأنظمة الإجرائية! فضلا على باقي المنظومة الذكورية بما فيها الأفهام الفقهية، التي خرجت من عباءة زمانها بأنساقه الاجتماعية الثقافية، ولا تزال تحكم على المرأة قبضة الفكر الوصائي.

نعيش اليوم في زمن مختلف يعج بتحديات يفرضها التحديث واشتراطات العصر، فيما لايزال خطاب المرأة يراوح مكانه، لا يواكب التحديات ولا أسئلة زمننا ؛ الذي تستطيع فيه فتياتنا التواصل والتبادل الثقافي مع العالم بأسره بضغطة زر. وبالتالي مقارنة أحوالهن بأحوال النساء في العالم، وتقييم الحياة والأدوار الاجتماعية المرسومة للمرأة في ثقافتنا، ليوصلهن تعقيد الحياة والعوائق التي تواجههن إلى نتيجة مفادها أن كينونتهن نفسها معضلة وإشكالية كبرى في ثقافة تضيق عليهن الخناق، وكثيرًا ما تحشرهن داخل الهوية (الجنسية) الأنثوية فقط، وفي مفاهيم الفتنة والعار والوأد النفسي والمعنوي؛ متجاهلة نزعتهن الطبيعية للتفوق والإنجاز، ورغباتهن المشروعة في تحقيق الذات وإثبات الوجود والقدرات.

عدد المبتعثات الكبير وخروجهن للعالم وتعالقهن الثقافي مع الآخر يضعنا أيضا أمام تحدٍ ثانٍ، فالعودة لأرض الوطن تعني مواجهة النسق الاجتماعي المتكلس منذ زمن، ومكابدة عملية التكيف مع ما يصاحبها من مشاعر إحباط وتحجيم للطموح وتطويق للأحلام. بل لعلّي لا أبالغ حين أقول أن الأمور تعود أحيانا القهقرى، ففي معارك الممانعات المصاحبة لأية تغييرات تمس المرأة، والعوائق الإجرائية الاشتراطية التي توضع في وجهها دلالة على ذلك التأخر!.. وإمكانية تحول حق من الحقوق الممنوحة للمرأة، ببساطة شديدة، إلى وسيلة لتأكيد سطوة الثقافة وجبروتها، وتكريس تبعية المرأة عوضًا عن الاعتراف بأهليتها الكاملة وتحقيق استقلاليتها.

الجيل الجديد من الشابات يستحق منا خطابًا مختلفًا قادرًا على إجابة أسئلتهن، وإنقاذ بعضهن من براثن الحيرة التي قد تصل للتشكك في الدين والنفور منه؛ فكثيرًا ما يتم الخلط بين الشرعي والاجتماعي، وإلباس هضم حقوق المرأة لبوسًا دينيًا بينما الدين بريء من ذلك. فقد أكدت النصوص التأسيسية في القرآن الكريم والسنة على أهلية المرأة الكاملة ومساواتها بالرجل في التكليف والثواب والعقاب والمشاركة في إعمار الأرض، بينما بقيت الأفهام الفقهية مرتهنة لذكورية المجتمعات والثقافة، ولم تستطع تحرير خطاب المرأة من قيودها وإكراهاتها!

أمل زاهد

 

عن النفاق والازدواجية أتحدث !

عن النفاق والازدواجية أتحدث !

لعلّ من أكبر مآسينا وأمراضنا هو تفشي ثقافة الكذب والنفاق في مجتمعاتنا العربية ، حتى أصبحت أسلوب حياة ومنهاجا مستساغا لايجد رفضا أو استنكارا عند كثير من الناس ! فماهو مقبول ويمارسه الفرد بكل أريحية بعيدا عن أعين المجتمع ، محرمٌ ومرفوض وغير مقبول إذا ماتم في العلن والنور !ومايقبل ولا يرى المرء فيه بأسا خارج حدود الوطن وفي بلاد التصييف -على سبيل المثال -، مستنكر ومستهجن ومرفوض تماما إذا ماحدث في ربوع بلادنا ! ومادمت قد ابتعدت عن عيون الناس وألسنتهم وقيلهم وقالهم ، فمن حقك ممارسة مامنعته عن نفسك خوفا من سلخهم لك بسياط الألسنة والانتقادات،..حتى أصبح للعديد منا وجوها وأقنعة مختلفة ، يظهرها تبعا للظروف والمكان والقوم المتواجدين فيه وخلافه من الملابسات ! وأنا هنا لا أتحدث عن المرفوض دينيا وأخلاقيا ، ولكني أتحدث عن ممارسات تلقائية لا تخرج عن حدود الدين أو الأخلاق .

بل إن كثير من الممارسات والسلوكيات تتم تحت وطأة ضغوط اجتماعية وثقافية شديدة الثقل ، وذلك رغم ضعفها وهشاشتها قيميا وعدم قدرتها على الوقوف في وجه الدين -نفسه – والحجة والمنطق ومنافع الناس ، ناهيك عن معطيات حياتنا ولزوميات واقعنا ومااستحدث فيه من مستجدات ! لنأخذ على سبيل المثال أفراحنا ومناسبتنا التي تتهدل مظهرية وبذخا وترفا ، ناهيك عن التلوث الضوضائي والموسيقى الصاخبة والغناء النشاز الذي يصم الآذان في قاعات الأفراح  ! رغم كل هذا الواقع المؤلم ستجد من يخرج عليك بشتى أنواع الاتهامات إذا ماتجرأت وتحدثت عن افتتاح معهد موسيقى يدرس العلوم الموسيقية الراقية ، ويربي الذائقة الجمالية ويهذب الأسماع لترفض القبيح من الأنغام ! ورغم هذا الواقع المر أيضا لن تجد من  يستنكر البذخ والترف المبالغ والمظهرية في أفراحنا ، مع تعارضها مع روح الدين وتعاليمه ، ولكنه سيستنكر ممارسات قشورية شكلانية لاتضر أحدا ولا تنفعه ، وذلك تماشيا مع ثقافة النفاق والكذب !

وحدث ولا حرج عن ثقافة العيب وماتفرضه علينا من إكراهات كثيرا ماتكون مرهقة نفسيا واجتماعيا ، كونها تولد صراعا نفسيا واجتماعيا شديد الوطأة ، بل إن ثقافة العيب كثيرا ما ترهقنا ماديا وإقتصاديا إذا ماتعلق الأمر بالمظهرية وضرورات ” الكشخة ” ! وهلم جرا من مظاهر وسمات النفاق التي باتت ملمحا من ملامح ثقافتنا العربية ، فقد استمرأها كثير منا واعتادوا عليها لدرجة عدم إنكارها واعتبارها مسلكا محبذا ومرحبا به ،رغم مناقضتها وتضادها مع روح وجوهر ديننا الذي يدعو للصدق ، وينبذ الرياء والتصنع والكبر والعجب وكافة المسالك الأخلاقية التي تهوي بصاحبها إلى منحدرات التزييف والتصنع وإظهار مالا يُبْطن !

الخطير أن هذه الثقافة تصنع أفرادا غير أسوياء نفسيا ومزدوجي الشخصية يعانون صراعات نفسية مضنية ، فهم يخشون الناس وغمزهم ولمزهم أكثر مما يخافون ممن خلقهم سبحانه وتعالى ! وهنا يصبح التلون والتقلب بين النقائض حتمية سلوكية ، مما يفقد الفرد حصانته وشعوره بقوته الداخلية ومناعة مبادئه وقيمه ، وتعرضها هذه القيم الدائم للتخلخل والتفكيك نتيجة لذلك .

وإذا ماأردت أن تخرج عن السائد والعادة والإلف ، فاعلم أنك ستواجه بدعوات الويل والثبور وكافة أنواع الرفض والتهم النمطية المعلبة بدءا من النفعية والتغريب وصولا للتصنيف ووصمك بكراهية الدين ، حتى لو كنت على حق وحججك مقنعة ولا تخالف الدين نفسه ، فقد تجرأت ووضعت يديك في عش الدبابير !

الخطير أيضا أن استمراء النفاق يصنع مناخا تطبيعيا  مع الكذب،  والاعتياد على تزييف الحقيقة والتضليل وقتل العقلية النقدية ، وعندما يعتاد الناس الكذب يسهل حقن عقولهم وزرعها بكافة أنواع الأفكار !

أمل زاهد

 

احتواء معاناة فتياتنا وحمايتهن أولا

احتواء معاناة فتياتنا وحمايتهن أولا !
علينا أن ندرك أن الطريق الوحيد لإغلاق المنافذ على استغلال الإعلام الغربي لقضايا المرأة السعودية ، واستخدامه لها كمادة دسمة حافلة بالإثارة، -يتم تناولها غالبا بطريقة لا تخلو من التسطيح والمبالغة أو السخرية والتندر-، لا يمكن أن يتم الإ بالاعتراف بوجود الخلل ، ومن ثم محاولة العمل عليه وإصلاحه.
نحن اليوم نعيش في قرية عالمية صغيرة ، يتدوال فيها الناس الأخبار بأسرع من طرفة عين ، ومايحدث في الطرف الأبعد من العالم عنك ، ستجده بكل سهولة ويسر في لحظات على شاشة تلفونك ! لذا لا عاصم اليوم من استغلالهم لمعاناة المرأة إلا بالاعتراف بمواطن الخلل ، والعمل على إصلاحها سريعا . وذلك أولا لنحتوي معاناة نساء وفتيات في مجتمعنا؛ تؤكد الشواهد الموضوعية الملموسة على إمكانية وقوع الظلم عليهن نتيجة لبعض الأنظمة والاجراءات الحكومية من جهة ، أو لغياب بعضها الآخر من ناحية أخرى .
لا شك أن إصلاح البيت الداخلي وتحصينه والقضاء على مسببات وبواعث الإشكاليات الحساسة والمحرجة المتعلقة بالمرأة، هو الحصن المنيع والدرع الواقي لحماية بناتنا من الظلم الاجتماعي الواقع عليهن بداية، ومن أية اختراقات تهدف لاستغلال واستثمار معاناة الشريحة المظلومة ممن ابتليت بولي سيء مستغل أو بسيف العنف المسلط على رقابهن . كما أن التعاطي مع الثغرات التي يتسلل منها الظلم الاجتماعي و يتناقله القاصي قبل الداني في العالم ، هو الطريق الوحيد الناجع للوقوف في وجه هذا المد الإعلامي الكاسح الذي يتطلع لتدوال أخبار المرأة السعودية. وأعود فأقول احتواء المعاناة والمواجهة هو الحل ، بدلا من دس الرؤوس في الرمال وإدعاء أن جميع الأمور في نصابها الصحيح ، والاستمرار في التلحف بنظرية المؤامرة والتغريب والتخوين وغيرها مما اعتدنا سماعه ، كلما عنّ حدث جديد يضع المرأة السعودية تحت المجهر ، أو برزت مطالبات مشروعة تهدف لفك اللبس مابين الديني الشرعي والعرفي التقليدي !
من هذا المنطلق فإن قضية ( مريم العتيبي ) التي تأججت على مواقع التواصل وأنكرها المنكرون ، ليثبت أحد المسؤولين في هيئة حقوق الإنسان القضية ، وعن كونها كانت موجودة في أحد دور الرعاية حتى يتم البت في قضيتها ، تضعنا من جديد أمام هذه الإشكالية .فبغض النظر عن تفاصيل القضية ، فإن الاعتراف بوجود الخلل في الاجراءات المنتهجة حيال المرأة أو الفتاة المعنفة ، وأنه المسبب الأول لما يحدث هو بداية الطريق للوصول للحلول ، بدلا من الإنكار أو توجيه أصابع الاتهامات على من يقع عليهن فعل التعنيف ، كما اعتادت الثقافة الاجتماعية السائدة أن تفعل! وأنا هنا أتحدث بشكل عام ، فلماذا تحبس المرأة التي تم ثبوت فعل التعنيف عليها أو الأخرى المعضولة بين جدران دور الرعاية ؟! لتتجمد حياتها وتجد سنوات عمرها تتسرب من بين أيديها هدرا دون الوصول لحلول ؟! ولماذا تتحول قضايا العضل على سبيل المثال إلى قضايا عقوق كما رأيناه يحدث مرارا ، ولماذا يتحول التعنيف إلى عقوق ؟! ولماذا يحكم على زواج مستقر، وزوجة راضية بزوجها وزواجها بالتفريق على أساس عدم الكفاءة في النسب ، دون أخذ رأي المرأة نفسها وهي الطرف الأول في القضية ؟! وهلم جرا من قضايا المرأة التي تجعل منا فريسة سائغة لسياط إعلامهم .
إذا لم نقطع الأسباب ونقف لها بالمرصاد ، ستنبت لنا بين كل فينة وأخرى مريم عتيبي جديدة يتلقف الجميع أخبارها ، أو تبرز لنا قضية فتاة ترمي نفسها وحياتها في خضم بحور عاتية من الهرب للمجهول ، ترتهن فيها لشتى الاحتمالات الموغلة في السوء والسوداوية ، ثم نعود لنصفق كفا بكف ونقول نحن مستهدفون من النيويورك تايمز أو من غيرها !
أمل زاهد

في معنى أن تلد المرأة نفسها!

في معنى أن تلد المرأة نفسها !
استهوتني كثيرا فكرة ولادة المرأة لنفسها، والتي طرحتها الكاتبة والناقدة خالدة سعيد في كتابها ( في البدء كان المثنى ) . ذلك الانجاب الذي لا يمكن أن تجدب خصوبته ولا يتعرض لعطب الزمان وعوامل تعريته، فهو المممتد أبدا في جسد الخلود والبقاء ، والمنعتق من سجن الجسد وقضبان الزمان والمكان . تلك الولادة التي تقول عنها الكاتبة ” أن يكون للمرأة مشروع إبداع وتسام هو أن تصير كائنا بذاته تنجب ذاتها باستمرار كما تنجب أولادها ، تخرج من محدودية الوظيفة الجنسية إلى أفق الإنسان ، تنجب امتداده الزماني والمكاني وتعطي لمراميها وأحلامها جسدا لا يشيخ ، وهذا هو أساس التحرر .”
استهوتني كثيرا هذه الفكرة لأنها أولا حاجة إنسانية لا ترتبط بالجنس الأنثوي ، فكلنا مسكونون -نساءً ورجالا- بذلك التوق للتحرر والانعتاق وتحدي شروط الزمان والمكان . وذلك عبر مشروع إبداع خاص بنا،يحررنا ويعطينا القيمة والمعنى ، كما ينحت أسماءنا على جذع الخلود ، ويدلل أننا مررنا يوما من هنا . وإن كانت هذه الحاجة بالطبع تبدو أكثر إلحاحا في حالة المرأة ،خاصة في ثقافة تمعن في تشييء المرأة واستلاب إنسانيتها ، وتجعل كينونتها دوما مرتهنة بغيرها ، ووجودها ناقص القيمة مبتور المعنى خارج إطار الوظيفية البيولوجية ، التي بقدر ماهي نعمة مكنها الله تعالى بها من تحدي الموت وإعادة إنتاج الحياة المتخلقة في أحشائها، بقدر ما تصنع منها الثقافة سياجا يحبسها داخل تصورات مسبقة ، كذات ناقصة لا تكتمل إلا بغيرها ، وكوجود مشروط لا يستطيع التبرعم والنمو ومد أذرعه في الفضاء دون مساندة ودعم ! مما قد يفسر لنا لماذا تعنون دورة في مشهدنا الاجتماعي – بغض النظر عن مضمونها- بتساؤل مستفز ومخجل يشكك في إنسانية المرأة ، أو لماذا نسمع داعية يصمها بالعار ، أو آخر يربط بين قيادتها للسيارة وتعرض وظيفتها البيولوجية للعطب ، كونها التي تمنحها القيمة في نظره!،..إلى آخر ماتتحفنا به ثقافة تبخيس المرأة وانتقاصها من عجائبيات !
أن تلد المرأة نفسها يعني أن تتحرر من كل الأطر المسبقة التي صنعتها الثقافة بسردياتها الأسطورية ، وحكائياتها المنمطة لها داخل سجن الشيطنة والعار والفتنة والضعف والنقصان وقلة الحيلة وتغلب العاطفة والكيد والمكر، إلى آخر الرذائل التي يوصم بها الجنس الأنثوي . ولن يتأتى لها ذلك إلا بالعودة للنصوص التأسيسية للدين في منبعها الأصل ، والتحرر من سلطة الأفهام البشرية الخاضعة لأنساق عصرها وإكراهاته .
أن تلد المرأة نفسها يعني أن تعي وجودها وتمام صنع الله تعالى فيها ، وقدراتها وإمكانياتها كشريكة للرجل في عمارة الأرض ، وكذات فاعلة تستمد قيمتها من قدرتها على إثبات هذا الوجود من خلال مشروعها الإبداعي في الحياة، أيا كان حقله ومجاله .
تقول الروائية السعودية المبدعة ليلى الجهني :” إنني أكبر ، وأبلغ أربعيني دون طفل ، ومع ذلك فإن اسمي لن يُمحى كما تظن نسوة كثر حولي ، وحياتي لن تفضي إلى خواء ، ما أنجبته عصي على الموت ، وكل ماأعرفه عن الحياة جعلني أدرك أن الخلود حلية من يعي لا من يتكاثر .”
أمل زاهد

إسقاط الولاية وخطاب الضد

إسقاط الولاية وخطاب الضد !
ليس جديدا أن نسمع سيدة تتربع على سدة الأكاديمية وتحظى بكافة مزايا الاستقلال الاقتصادي ؛تتحدث عن لزوم قرار المرأة في بيتها أو ربط عملها بالضرورة القصوى كونه يستلب من الرجل قوامته الشرعية ! وبينما تحصد هي نتاج عمل المرأة اقتصاديا ، وآثاره الإيجابية على ثقتها بنفسها وشعورها بالرضا المعنوي الناتج عن العمل والانجاز ، لا تجد بأسا في معاناة غيرها من النسوة الملقيات على هوامش الحياة وشظف العيش ، وذلك في سبيل تحقيق قراءة طوباوية -بعيدة عن شروط الواقع وإلزاماته-، لمفهوم القوامة ! ليس جديدا أيضا أن نسمع شتى أنواع الممانعات لعمل المرأة من امرأة مخملية مرفهة ؛ لا تعرف مرّ الحاجة ولا مكابدة المعاناة اليومية لملايين النسوة اللواتي لم تهدهدهن ظروفهن الاجتماعية ولم توفر لهن ذات الامتيازات ! وهكذا يستشرس ويزايد هذا الخطاب الصادر من بعض النساء- أنفسهن- في إعادة إنتاج النسق الثقافي الممانع ، واضعا في أذنيه وقرا عن تحديات الواقع الراهن ! وذلك في ازدواجية عجائيبة تنهى عن الشيء وتأتي مثله تارة ، أو تنعم بمكتسباته تارة أخرى بينما لا تريدها لغيرها في تناقض آخر موازٍ ! وأيضا في استعلاء طبقي لا يراعي ضروريات الحياة الحالية لشريحة كبيرة من المجتمع ؛ صار عمل المرأة بالنسبة لها ضرورة اقتصادية لا يمكن الاستغناء عنها !
في ذات السياق اليوم ، ومن نفس رحم خطاب الضد – وأعني به الخطاب الصادر من المرأة ضد المرأة – يخرج علينا اليوم حديث ممانعة حصول المرأة على أهليتها الكاملة، ومساواتها بأخيها الرجل في الأنظمة الحكومية ومؤسسات الدولة ، ورفع عبء الولاية المطلقة عن كاهلها ! وهنا ستجد خطاب الضد – النسائي – يزايد ويتفوق على خطاب عتاة الممانعة من الذكور الخائفين على موقعهم في التراتبية ، والمتوجسين من فكرة سحب البساط من تحت أقدامهم ، ونزع صولجان سيادتهم على النساء الواقعات في دوائرهم ؛.. فهو الذي يستمدون منه الإحساس بقيمة متوهمة ومعناً متخيلا. وهذا الخطاب النفعي لن يألو جهدا في التمترس خلف كافة أنواع التسويغات ، فهو تارة يستقوي بالديني المختلط بالأعراف الاجتماعية والتقاليد ، أو يخلط متعمدا أو غير متعمد بين القوامة والولاية ! وأخرى يتذرع بمفهوم مغلوط وخاطيء عن الوطنية ، وكأن إنكار الإشكاليات الاجتماعية الثقافية ،،وعدم الاعتراف بوجودها وسلبياتها هو المعيار المحدد للدخول في حظيرة تلك الوطنية المزعومة أو الخروج منها ! وهنا ستجد كافة أنواع العجائبيات ، من امرأة سعودية تعيش في الغرب ، وتتنعم باستحقاقات وجودها في ثقافة تتقبل حضورها في الفضاء العام ، ولا تضيق عليها الخناق في التنقل ، وتعترف بأهليتها الكاملة في كافة الأنظمة ، .. ولكنها في ذات الوقت لا تجد حرجا في أن تكيل شتى أنواع الاتهامات للنساء -في الداخل- من المطالبات بحقوقهن المبدئية في الاعتراف بأهليتهن الكاملة وإسقاط الولاية المطلقة عنهن ! وستجد أخرى تحظى بتفهم الرجل من حولها ، وإدراكه لمعاني الرجولة الحقة ، وعدم وقوفه كحجر عثرة في وجهها مستغلا ورقة الولاية ، .. ولكنها في ذات الوقت لا تكتف بصم أذنيها عن معاناة الفتيات المعضولات، أو النسوة المعنفات الواقعات تحت سطوة ذكور مستبدين أو ولاة ظالمين ، بل تزايد في سبيل إبقاء الأوضاع على ماهي عليه !
يلعب خطاب الضد دور الرافعة الاجتماعية للنساء اللواتي يرفعن لوائه ، فهو يمنحهن نياشين الرضا المجتمعي ، وامتياز الاعتراف بالصلاح والتقوى والتدين . كما يتم به مغازلة اللاوعي الشعبوي في مواقع التواصل الاجتماعي ، وترتفع من خلاله أسهم القبول على مستويات مختلفة !
الوعي بالذات وتمام صنع الله في المرأة وكمال الأهلية ، وبالمعنى العميق للحرية هو أول الطريق لتفكيك خطاب الضد في سبيل خلق امرأة مستقلة وفاعلة ؛ تدرك أبعاد شراكتها مع الرجل في الخلافة على الأرض .

أمل زاهد
رابط المقال في جريدة المدينة
http://www.al-madina.com/node/696470/%D8%A5%D8%B3%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%AF.html

إسقاط الولاية وسؤال الحرية !

إسقاط الولاية وسؤال الحرية !

لاشك أن الحرية بما تضمنه من قدرة الإنسان على اختيار أفعاله ومسؤوليته عنها هي السمة الأهم والقيمة الأبرز التي تميز الإنسان ، وتمايز بينه وبين باقي الموجودات . والحرية كما أراها واستشعرها كمعنى قبس من روح الله تعالى، بثها في الإنسان عندما خلقه وهداه النجدين ، وشرفه بمنحه حرية الاختيار ثم تحمل مسؤولية اختياراته ونتائج أفعاله.
الوعي العميق بمعنى الحرية ومضامينها وتجلياتها هو المفهوم الذي يقوم عليه بناء الإنسان – رجل وامرأة – ؛الفاعل المنتج المؤهل لخلافة الله في الأرض وإعمارها . وهذا الوعي أيضا هو المكون المؤسس للإنسان الحامل للأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها لعظم وثقل مسؤوليتها وحملها الإنسان . من هذا المنطلق فإن تعطيل قيمة الحرية وتجريد المرأة منها يستلب منها أهم وأبرز ماخصها الله تعالى به ؛ كإنسان شرفه الله بتمام صنعه فيه أي بالخلقة السوية والعقل والوعي والقدرة على الاختيار والتمييز بين الخير والشر. كما أن تربية المرأة على أنها كائن رديف لايقوم بنفسه بل بغيره ، ولا ينهض على قدراته وإمكانياته الممنوحة له من الخالق ، يعطل نصف المجتمع عن إدراك ماهية ذاته الإنسانية المكرمة ، ويعيقه عن الوعي بمعنى الحرية ومايقوم عليها من مسؤوليات ومهام وتبعات . وبذلك يمنعه من النمو والتطور والإزدهار والإكتمال في فضاءات ذاته الإنسانية المتفردة التي لا تشبه إلا نفسها .
يأتي ترسيخ هامشية المرأة /الإنسان ونقص أهليتها ، وتأكيد الوصاية عليها في الأنظمة الإجرائية الرسمية من أذونات سفر وسماح بالدراسة والعمل وخلافه ، ليجذر مفهوم النقص وعدم القدرة على إتخاذ القرار والتردد والضعف وباقي الخصال المذمومة التي تربط دوما في الثقافة بالجنس الأنثوي ، لتكتمل باقي منظومة تغييب وعي المرأة عن ذاتها الإنسانية وعن الحرية كقيمة ومعنى ! وبذلك يصبح نصف المجتمع في حكم المعوقين وناقصي الأهلية وفاقدي الرشد، مما يعيق عملية التنمية نفسها ، ويقف في وجه عجلة رؤية التحول الوطني القائم حاليا، والتي لابد أن يصحبها تحول على كافة المستويات الثقافية والاجتماعية والاجرائية التنظيمية ، لتصبح المرأة عنصرا فاعلا في سيرورة هذه الرؤية .
وقبل هذا وذاك من الأهمية بمكان إعادة الاعتبار للمرأة الإنسان ومنحها حقها في تقرير مصيرها ، وتجلية الإرث الثقافي مما ران عليه من إلف العادة وسطوة الأعراف الاجتماعية ، والأفهام البشرية غير المدركة لمعنى وقيمة المساواة في التكليف والثواب والعقاب بين الرجال والنساء . المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الإسلام ، ولا ولاية على المرأة العاقلة الراشدة إلا في الزواج وليس في كل المذاهب الفقهية ، فالمذهب الحنفي أجاز تزويجها لنفسها . وولاية الزواج تشريفية تقديرية للأب المربي الذي تعهدها بالحب والرعاية ، مع التأكيد أنها تقوم على رضى المرأة وموافقتها أولا.
يأتي رفع الوصاية وإسقاط الولاية في الاجراءات والأنظمة الرسمية عن المرأة هنا ليعيد الأمور إلى نصابها الديني بفك الالتباس بين العرف والشرع ، وليصيغ واقعا اجتماعيا جديدا ترشيديا بدلا من تبرير الواقع المكرس لدونية المرأة . وهو ليس معركة بين الرجال والنساء ، بل إعادة حق واعتبار للجنس الأنثوي المتكامل مع شقيقه ونصفه الإنساني الآخر، والذي لايمكن أن تتحقق حريته إلا بنيل طرفيه لحقهم في هذه الحرية . وهو إجراء عملي توعوي يساهم في تفكيك بنية التخلف والتأخر ، ويقوي المجتمع بتمكين شقه الآخر وتأسيس وعيه بمعنى حرية الإنسان وحقوقه ، والذي تأتي حقوق المرأة كبوابة ومدخل لها .
أمل زاهد
رابط المقال في جريدة المدينة
http://www.al-madina.com/node/698233/%D8%A5%D8%B3%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9.html

الوطنية في حملة إسقاط الولاية

الوطنية في حملة إسقاط نظام الولاية !
في عالم اليوم المفتوح الفضاءات يكفي أن تعطس في مكان ما ، لتُسمع أصداء عطستك في الطرف الآخر من العالم ، ويكفي أن تثار قضية ما في طرف من الأرض ، لتسمع أصداءها ووجيبها يتردد في أنحاء العالم بأسره ! دون شك تتيح هذه الفضاءات المشرعة الأبواب للجماهير في العالم التفاعل مع قضايا تبعد عنهم جغرافيا عشرات الآلاف من الأميال ، فهل يعني هذا أن نبتلع قضايانا ونتجرع معاناتنا وما تسببه من مضار وآثار قريبة وبعيدة المدى ، ثم نُحكّم عليها أردية الصمت والتكتم ، حتى لا يستغلها من يتغيا الإساءة إلى بلادنا ، أو من يهدف لتشويه سمعتنا ؟! فيما تقول كل الشواهد أن تجاهل الإشكالات بمختلف أنواعها ، سيقود بالضرورة إلى المزيد من الاحتقان والتوتر ، الذي لابد أن يصل يوما لمرحلة التفاقم، والخروج عن السيطرة مسببا مزيدا من الأضرار على المجتمع والوطن ! وفيما تقول الأدلة الراجحة أن الاعتراف بوجود المشاكل، ثم محاولة احتوائها هي الوسيلة الأنجع لإلقام المتصيدين والمتسلقين على قضايانا حجرا، يقطع الطريق أمام محاولاتهم لاستغلال هذه القضايا للإساءة لسمعة بلادنا الحبيبة وديننا الحنيف .
ولعلّ من نافل القول أن الحديث عن مشاكل المرأة السعودية وقضاياها حديثا شديد الجاذبية للإعلام الغربي ، فهل يفترض هنا أن تصمت النساء المتضررات من بعض الأوضاع الصعبة في محيطهن الاجتماعي، خشية من المغرضين والمتسلقين على قضاياهن ؟! وهل يفترض أن نحكم على حراك مدني قوي يسير بثبات ودأب وتراكم- كحملة إسقاط الولاية في الأنظمة الحكومية على المرأة الراشدة- بالإعدام والموت ؟!.. فقط لأن مغرضا انضم لحملة الكترونية مفتوحة الآفاق لا يمكن السيطرة عليها، أو لأن منتفعة -ما -قررت الإساءة للحملة ، واستثمار معاناة الفتيات وتسليطهن الضوء على تفاصيل مكابدتهن بسبب هذا النظام ؟! وهل الصمت وابتلاع المعاناة سيساهم في فك الاحتقان وإنهاء الإشكالية ، أم أنه سيساهم في الوصول بالأحوال حتما إلى الدخول في مرحلة التعقيد والتأزم ؟!
إن هذه الحملة المدنية الجادة التي قامت على أكتاف جهود مخلصات ومخلصين من أبناء الوطن على قدر كبير من الشجاعة ، جديرة بالدعم والتبني من المحبين لوطنهم ودينهم ، كون الولاية على النفس أولا حق كفله الدين للمرأة الراشدة العاقلة . وثانيا لأنها تقشع عن حقوق المرأة في الإسلام ماران عليها من تشويه وإساءة ، ساهم نظام الولاية بشكله الحالي في تكريس صور نمطية عنها ، استغلها الإعلام الغربي متندرا تارة، ومبالغا مضخما تارة أخرى . والحل هنا ليس إغماض العين ودفن الرؤوس في الرمال ، بل الاعتراف والمواجهة وصولا لاحتواء المشكلة وإيجاد الحلول .
إن الوطنية – والتي يبدو أن هناك ارتباكا والتباسا حتى عند بعض المثقفين والحقوقيين في مفهومها- ، تقتضي بالضرورة النقد الشفاف الصريح للأوضاع المولدة للإشكاليات. والتي قد تسبب أزمات اجتماعية نلمح بوادرها وإرهاصاتها . وذلك حرصا على الوطن وسلمه الاجتماعي، وثقة مواطنيه ومواطناته بتحقق العدالة والمساواة فيه ، في ظل متغيرات ثقافية واجتماعية شديدة القوة وجامحة السرعة ، نستطيع أن نرصد آثارها وعواصفها بوضوح، حتى على ما ظننا أنه من ثوابت خصوصيتنا ، وما تدثرنا به طويلا خشية من الانفتاح على العالم الذي صار يزورنا في غرف معيشتنا وشاشات أجهزتنا.
الوطنية ليست المزايدة ، ولا التخوين والتشكيك وإلقاء التهم جزافا على من يسلط الضوء على القضايا الإشكالية الهامة ، ولكنها الحرص على هذا الوطن الغالي ، بالحرص على الإنسان – امرأة ورجل – فيه ، ومحاولة إيجاد الحلول لمعاناته ومتاعبه .
أمل زاهد
رابط المقال في صحيفة المدينة
http://www.al-madina.com/node/713946

هل نحن محصنون ضد الحريم ؟!

ستظل الراحلة فاطمة المرنيسي رحمها الله حاضرة ، بما تركته لنا من إرث ثقافي نسوي باذخ الثراء ، ساهم في تجلية صورة حقوق المرأة في الإسلام وقشع ماران عليها ، وتفصيح الأسئلة وإثارتها . حفرت فاطمة المرنيسي ، المفكرة والباحثة المغربية التي رحلت عن دنيانا نهاية العام المنصرم ، في التراث الإسلامي مستلة أسلحتها في تفكيك دونية المرأة من التراث نفسه ، ومن هنا تنبع أهمية طرحها وقدرته على صناعة تأثير عميق في مجتمعاتنا العربية ، التي يشكل الدين العنصر الأهم في مكونها الوجداني . فالمرنيسي لا تعلن القطيعة مع التراث ، ولكنها تصاحبه وتمارس الغوص والتنقيب فيه ، لتكشف كيف تجنى الفهم البشري على قيم التي تبناها الإسلام . ثم تشحذ أدواتها النقدية وهي تسافر عبر الأزمنة في أمهات الكتب ، وتدمج بين آليات النقد الحديثة وبين ما انتهجه السلف في تضعيف الأحاديث ، التي تصفها بالمعادية للمرأة ، والتي لا يمكن أن تتسق مع قيم الإسلام الجوهرية. ففي كتابها ( الحريم السياسي ، النبي والنساء ) على سبيل المثال ، لا تكتفي فقط بتحليل هوية رواي حديث ” لم يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ” أبي بكرة وظروفه الاجتماعية ، ولكنها تفكك بنيته النفسية ودوافعه الكامنة ، وتعيد زراعة الرواية في سياقها التاريخي والظرفي (السياسي) ، الذي رأته محركا لتذكر حديث مضى عليه ربع قرن من الزمان .وصولا لاستخدامها علم الجرح والتعديل ، واستدلالها بإدانة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبي بكرة وجلده لإدلائه بشهادة كاذبة .
شغل ( الحريم ) – بماهو ذلك الفضاء المكاني المغلق الذي يضم عددا كبيرا من النساء – حيزا من أعمال المرنيسي ، فتلك الطفلة المغربية ظلت مسكونة بالحريم الذي وجدت نفسها بين جدرانه ، ونسائه اللواتي كن يطمحن بالسفر على أجنحة الحلم . مما دفعها إلى البحث في جذور الحريم ، لتكشف لنا أن العرب والمسلمين ليسوا آباء الحريم ولكنهم الإغريق والرومان ، ثم أخذوه عنهم الخلفاء والسلاطين بعد أن جرت في أيديهم الأموال ، لتجتمع لهم ثلاثية الثروة والسلطة والمتعة . وهي تنّقل قراءها بعذوبة ومهارة بين الشرق والغرب ولعبة السلطة التي كانت مدعاة لاسترقاق النساء وضمهن إلى مملكة الحريم ، ليقعن تحت إمرة وسلطة رجل واحد قد يصل عدد نسائه للألفين مابين زوجات وإماء .
أثبتت المرنيسي في كتابها ( هل أنتم محصنون ضد الحريم ) أن الحريم الشرقي بمحظياته وجواريه ، ظل محركا للخيال الغربي برساميه وفنانيه . وفيما هذب الغرب نزعاته وحصرها في إطار لوحة أو عمل فني ، ومارس الرقابة الذاتية نتيجة لتطبيع علاقة الرجال بالنساء وتواجدهم معهم في ذات الفضاء المكاني ، لازال كثير من الرجال الشرقيين – وفيهم المتعلمون – ” حريمي المصل ” ، أي أنهم يحلمون بشريكة الحياة التي تخدمهم كالجارية والمحظية .

            أمل زاهد

http://www.al-madina.com/node/648325رابط المقال في المدينة

بين الموت والخلود

بين الموت والخلود

يهجس الإنسان بالخلود ويرتعد فرقا من فكرة الفناء والعدم ، يفجر ذاته في الحياة ويتطلع إلى المدى باحثا عما يحقق له الخلود ! عما يبقي اسمه وتاريخه ومنجزه صامدا صلدا أمام عوامل التعرية ، شامخا مقاوما السقوط بين فكي أحجيتي الزمان والمكان .. فلا مرور الزمان قادر على محو اسمه ولانأي المكان واندثاره واختفاءه مستطيعا طمس منجزه . ربما كانت فكرة الخلود المجدولة في دواخل الانسان والمختلطة بشريانيه ودمائه أحد أهم الدوافع السلوكية والغرائز الفطرية التي تحركه وتحفزه للعمل والانجاز ، فهو يحب ويتزوج ويتكاثر ويخلق ويبدع ويجد ويكد.. ليوصل اليوم بالمستقبل والآن بغد ، وليضمن انسحاب خيط من أعماق ذاته ومن باطن تكوينه ينسج به امتدادا لوجوده ، وخطوات تلي خطواته يكمل بسيرها المشوار ويتم بها الرحلة .
ولايخاف الإنسان شيئا قدر خوفه من الموت ولا يفزع من أمر قدر فزعه من النهايات وما تحمله في طياتها من احتمال للفناء والعدم ، فيعمل ويجد ويلهو بالقتال والصراع تارة وبالابداع والفن والخلق تارة أخرى كي ينسى أنه يمتطي الرحيل وأن أصل الاشياء هو الزوال وأن الشمس لا بد أن تغفو في حضن البحر ولابد أن يغّيب سناها وضوءها الغروب، وأن القمر لابد أن يتسربل بأجنحة السواد فتبتلعه طيات السماوات وآفاقها,.. فكل شيء زائل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام !
يقول نيكوس كزانتزاكس كاتب رواية ( زوربا ) الشهيرة في كتابه ( تصوف ) : لحظة أن نولد تبدأ رحلة العودة . الانطلاق والعودة في آن . كل لحظة نموت لهذا جاهر كثيرون إن هدف الحياة هو الموت . ما أن نولد حتى تبدأ محاولاتنا في أن نخلق ونبتكر ، أن نجعل للمادة حياة . كل لحظة نولد.. لذا جاهر كثيرون إن هدف الحياة هو الخلود .
مابين فكرتي الموت والخلود يتحرك الإنسان في مجالات ومدارات تدفعه للصعود تارة وللهبوط أخرى حتى يسلم بالرحيل ويرفع رايته البيضاء ويقضي الله أمرا كان مفعولا !! وكانت ولازالت فكرة الموت ملهما للمبدعين ومحفزا لهم على محاولة سبر أغوار النفس البشرية واكتشاف كيفية تعامل الإنسان مع الموت والتعاطي معه كحقيقة يجبر الإنسان على تقبلها والتعايش معها والرضا بها ، وكيف يتحايل الإنسان على فكرة الفناء وكيف يراوغ الموت ليتملص من بين فكيه تارة مقاوما ورافضا المرور إلى عالمه، أو ليستسلم له تارة أخرى فاقدا أي دافع للحياة أو رغبة فيها .
ولكن ماذا لو توقف الموت عن أداء مهمته يوما واحدا وما الذي يمكن أن يحدث لو تعطلت قدرته في القضاء على البشر والإطباق على أنفاسهم !؟
تلك هي فكرة الكاتب البرتغالي ( خوزيه سراماغوا) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998م في روايته ( انقطاعات الموت ) ، فهو يتخيل بالطبع حالة مستعصية لا يمكن حدوثها ثم يفجر من خلالها أحداثه الساخرة حيث تعم الفوضى في البلاد بعد أن يعلن الموت توقفه عن العمل وتتعالى الاحتجاجات تناشد الحكومة بوضع حد لتلك الفوضى ! ويقول سارماغو: هذا الخبر الذي يعلنه الموت قد يبدو ظاهرة سعيدة لكنه عكس ذلك تماما ، إن هذا هو أتعس شيء يمكن أن تمر به الإنسانية ! ومن خلال روايته الخيالية ينقد الكاتب الحكومة ويتهكم على وسائل الإعلام ويسخر من جهات عديدة أخرى . ويعلق في مقابلة معه قائلا : أن الحياة لا يمكن أن تعيش من دون وجود الموت لذا علينا أن نموت كي نبقى أحياء ويضيف قائلا لابد أن ننظر إلى الموت نظرة أخرى .. ولكن هل من الممكن أن يتقبل الإنسان رحيل حبيبه ومغادرته حتى لو علم أن الموت أفضل له وفيه الراحة والسكينة التي لا يستطيع أن ينعم بها في الحياة ؟! و ألا يسعى الكاتب نفسه للحياة والاستمرار والبقاء بمقاربته لفكرة الموت ومحاولته اختراقها ؟ تلك هي مأساة الإنسان واشكاليته مع الموت ، فمع كل نفس يتنفسه يقصر طريقه إلى حتفه ولكنه يأبى إلا البحث عما يخلده ويبقي اسمه محفورا على ذاكرة الأزمان .
و هل يمكن أن يشعر الإنسان بالخلود وهو يتنفس نفحات هواء الحياة الفانية ؟ هل يستطيع أن يلمس بأنامل ذاته لحظات تتجلل بسحر الأبدية وتشدو بمعزوفة الديمومة والبقاء وهو بعد لا يزال ممسكا بأعطاف حياة .. الوهم والتيه والارتحال هو عنوانها ؟ عايشت وغيري لحظات كثيرة يتوقف فيها الزمن ويشعر فيها الإنسان بأيدي مهيبة تمسك بعقارب الساعة فيتجمد الوقت وتتوقف دقات الزمن في دواخلنا فما نعود نسمع إلا صوت الخلود صارخا قويا يستهزأ بالفناء ويسخر من العدم ويؤكد لنا أننا باقون أبدا ما بقي الكون وأننا إحدى أطراف المعادلة التي لا يمكن أن تكتمل وتتحقق إلا بها . قد تكون دقائق أو ثوان تلك التي نشعر بها بتلك المشاعر ولكننا نعبر من خلالها إلى دنيا الخلود ونستقل أجنحتها إلى عالم الأبدية فيخفت صوت الزمان والمكان ويتلاشى الصخب فلا نعود نسمع إلا همسا أو صمتا مقدسا .. ويأخذنا ذلك الصمت الجليل على مراكبه لنبحر في عوالم الخلود فيتكثف إحساسنا بما نشاهده أو نسمعه أو نشعر به في تلك اللحظات فنتلمص من ذواتنا لنمتزج مع تلك المرئيات أو المسموعات ونتوحد بها ونتمازج معها .. نشعر وقتها بأبديتنا وخلودنا متجاوزين ضعف الجسد وطينية تركيبه ليعلو صوت الروح الخالدة والباقية عندما تبلى العروق ويفنى الثوب الذي يلبسها وتلبسه لفترة من الزمن .. لحظات التجلي هذه التي نقترب فيها من الخالق ومن ملكوته الواسع قد نشعر بها ونحن قرب حبيب أو عندما ننصهر في عمل إبداعي أو عندما نتوحد مع الطبيعة وسحرها أو عندما نستمع إلى نغمات الطبيعة التي أبدعتها يد الخالق أو نغمات موسيقية أبدعتها يد المخلوق ، فنقارب الخلود ونلامس حدود الأبدية .. وهنا لعمري تسكن عظمة الإنسان ويتجلى تميزه وتفرده فهو قادر أبدا على التحليق والسفر خارج حدود جسده مهشما سجن الزمان والمكان .. وهو قادر أيضا أن ينسلخ عن جسده ليحلق بروحه فوق كل الحدود وعبر كل الأزمان.
قوة وضعف .. فرح وحزن .. سعادة وشقاء .. يأس ورجاء .. حركة وسكون .. ارتفاع وانخفاض .. طاقة مفتوحة على مصراعيها على الأمل وأخرى تسحبه إلى مهاوي اليأس .. تيار صاعد نحو العمل والانجاز وتيار هابط نحو الركود والموت .. ويبقى الإنسان يصارع هذين التيارين المتعاكسين حتى ينسدل جفناه فوق عينيه، و يوارى جسده التراب ، و تنتهي رحلته في هذه الحياة الفانية ..
تنتهي الرحلة .. ويموت الجسد وتغمض الجفنان على عينين تلوح فيهما بواقي نظرة ترنو إلى الخلود وتتوق إلى الأبدية وتطمح في الانعتاق !!
أمل زاهد