المرأة السعودية والصورة الفوتوغرافية !
يتنامى عدد السعوديات اللواتي ينشرن صورهن في وسائل الإعلام ومواقع التواصل يوما بعد يوم، فيما يبدو تفكيكا أو زحزحة لمفاهيم سلبية ارتبطت دوما بنشر المرأة لصورتها في ثقافتنا. ويعود في تقديري هذا التغيير – النسبي – في الفكرة النمطية عن الصورة لعدة عوامل فرضها -بداية – عصرنا السريع الايقاع الذي يتسم بالتغييرات الجامحة ، وعدم الثبات، واهتزاز القيم الاجتماعية وذوبانها، وعدم قدرتها على الصمود في وجه رياح العولمة العاتية، والتغييرات الثقافية المصاحبة لها . من خلال تعددية روافد المعلومة وسهولة نقلها ونشرها، والتي أتاحتها ثورة الاتصالات والفضاءات الرقمية المفتوحة ، تم تفكيك الرأي الأحادي القائل بتحريم كشف الوجه ، وبالتالي سقطت قدسية تحريم نشر صورة المرأة ، عند شريحة من النساء . من جانب آخر فإن هيمنة الصورة وسطوتها على المشهد الإعلامي اليوم ، ساهمت أيضا في تحفيز المرأة على نشر صورتها ، إذا ما أرادت حضورا أقوى وأكثر فعالية وتأثيرا .ساعد أيضا انتشار الهواتف الذكية ، وسهولة التقاط الصورة ونقلها وتسريبها في كسر حاجز الخوف ، وفرض نشر الصورة كأمر واقع وحتمية طبيعية ، فرضتها تحديثات العوالم الرقمية والفضاء السيبراني الذي أصبح جزءا من الحياة الاجتماعية نفسها. ساهم أيضا الشغف والولع بمواقع التواصل الاجتماعي ، والرغبة في الظهور فيها وتأكيد الهوية عبرها ،- وذلك لما تشحنه في الفرد من تعزيز للايجو وشعور بالأهمية والفرادة والتميز – في تحطيم حاجز التردد والخوف من نشر الصورة . فرأينا شريحة من السعوديات لا يترددن في نشر صور ومقاطع فيديو لهن على مواقع التواصل بما فيها السناب شات ، الذي يحظى برواج كبير حاليا ، حتى يظهر ما يسحب البساط من تحت أقدامه . وتظل هذه المواقع ميدانا للتسابق والتنافس لشد الانتباه ولفت النظر ، فيما تتفتق عقول أباطرة صناعها كل يوم بالجديد القادر على جذب الناس رجالا ونساءً للانضمام لروادها ، والحضور والتواجد من خلاها .
رغم كل هذه المستجدات فإن قضية صورة المرأة تغور عميقا في الثقافة ويظل تفكيكها نسبيا وظاهريا ، فقد شكل – ولا يزال يشكل – خروج صورة المرأة السعودية الفوتوغرافية على الملأ هاجسا مرعبا لشريحة كبيرة من النساء في مجتمعنا ؛ فخروج هويتها المتجسدة في قسمات وجهها وملامحه لا يزال يعتبر نوعا من الفضح أو هتك الستر ! ومفهوم الفضح وهتك الستر يغرس ويجذر في اللاوعي الجمعي ويلقى في روع الطفلة منذ نعومة أظفارها ؛ ويظل يلتف حول عنقها ويحفر بآثاره العميقة داخلها ؛ فتتعامل مع ذاتها وهويتها وصورتها وأحيانا اسمها بل وكينونتها بأكملها من منطلق الشعور بالذنب والخوف من جلب العار على أهلها وذويها !. إنه الوأد النفسي والمعنوي للكيان الأنثوي ، والذي يستدعي إبعادها جسديا عن الفضاء العام، بل والحرص الشديد على إخفاء وإبعاد كل ما يرتبط بها ويدلل على هويتها وشخصيتها من ذلك الفضاء ، كاسمها ، أو صوتها، والأهم والأقوى دلالة بطبيعة الحال: صورتها ! إنه النفي داخل الفضاء الخاص وفي سجن الذات المثقلة بحمولات الذنب والخطيئة ، من هنا يتموضع تغييب الصورة الفوتوغرافية للمرأة والحرص الشديد -الذي كثيرا ما يصل للرعب- على عدم ظهورها كرمز عميق الدلالة على مفهوم النفي والإبعاد من جهة ، وعلى مفهوم الفضح وهتك الستر في حال ظهور الصورة من ناحية أخرى ! ومن هنا أيضا فإن تغييب الصورة الفوتوغرافية -بما هي دالة على الحضور والتواجد “الأولي ” في الفضاء العام -، يصبح شرطا ضروريا لإغلاق المنافذ على ذلك الحضور الباعث على الفضح وهتك الستر ، والذي يدشن بالصورة بداية، لتكرّ السبحة بعدها بباقي تجليات الحضور الأخرى !
ولخلع ثوب القداسة على إخفاء صورة المرأة وحجبها ؛ يتم التوسل بقراءة وفهم أحادي لتعاليم الدين يؤكد على تحريم كشف وجه المرأة ، بينما يتم التعتيم على قراءة أخرى يتبناها جلّّ العالم الإسلامي ، والتي لا ترى حرجا في كشف الوجه ! وهنا تتضح أهم أسباب وبواعث الممانعة الاجتماعية الضارية لإرفاق صورة المرأة في الهوية الوطنية ، وما تلاه من محاولات ابتكارية لتغطية الصورة وحجبها بعد فرض القرار السياسي للأمر . فيما لاتزال مكاتب ضباط العدل تلصق ورقة دائرية لتغطي وجه المرأة في الهوية الوطنية ؛ وذلك رغم أهمية التحقق من شخصية المرأة ، ورغم ما قد يحدث من تلاعب نتيجة لعدم التحقق ، والذي حاولوا معالجته أخيرا بموضوع البصمة .
يحمل نشر الصورة بعدا رمزيا دلاليا – عند أنصار التجديد – على الانفتاح والرغبة في التحرر من أسر العادة وقيد التقليد ، والاعتزاز بالهوية والتي لاشك أن الصورة وتقاسيم الوجه هي بؤرتها وأبرز معالمها . في ذات الوقت وعلى شاطئ التقليد يحمل نشر الصورة دلالة رمزية شديدة السلبية تماثل الوصمة والعار ، فالمرأة هنا تغريبية ، أو ليبرالية ، أو علمانية، إلى آخر التصنيفات النمطية المعلبة المعهودة مع ما تستدعيه – التصنيفات – من إطلاق للتهم على عواهنها واستباحة معنوية ؛ حتى لو حرصت صاحبة الصورة على الالتزام بالحجاب وكافة اشتراطات المحافظة . وتحضر الاتهامات النمطية هنا كإجراء شرطي بمعية الصورة ، لتلعب دور الرادع لكل من تسول لها نفسها نشر صورتها . فيما يستمر هذا الرادع في لعب دوره المهدد لسمعة المرأة ليصبح ضابطا ذاتيا صارما لدى المرأة نفسها ، فترفض هي ذاتها نشر صورتها مدافعةً بضراوة عن التقليد ! كما تحرص الثقافة على استمالة المرأة وجذبها إلى منطق الشطب والتغييب بأوصاف ظاهرها التثمين والتقدير وباطنها التبخيس والتشييء ؛ فهي درة مصونة وجوهرة مكنونة لابد من إخفاءها وحجبها خوفا عليها ، ولكنها في ذات الوقت لا ترقى لمرتبة الإنسان الحر المالك لنفسه وقراره ومصيره ، بل ليس لها حق اختيار إظهار هويتها أو إخفاءها لأنها لا تمتلك نفسها في المقام الأول ! تتماهى المرأة مع هذه الثقافة التي تشطب كيانها وتلغي وجودها ، لتلعب دورا مازوشيا تقع من خلاله في هوى الثقافة التي تجلدها وتبخسها ، فتتوحد معها وتستمد منها الشعور بالقيمة والأهمية ، وهنا تسبل على نفسها أثوابها وتفسيراتها وقراءاتها متباهية متفاخرة ، رغبة في الاستقواء والحماية من جهة ، وطمعا في الحصول على القبول والرضا والاعتراف ، الذي حتى لو كان مشروطا ، إلا إنه خير من النبذ الكامل خارج فردوس القبول الاجتماعي .فيما تتعوشب نبتة الخوف وتمد جذورها داخل المرأة ، فتحمل ” وصمة ” أنوثتها وتتعامل مع ذاتها من منطلق ” العورة ” التي ينبغي دوما تغطيتها وسترها حتى لا تجلب العار على الأسرة كلها بل والعصب بأكمله .
تشكل العصبية اللبنة الأم في تكوين المجتمع البطركي الأبوي ، وغني عن الذكر أن المرأة هي مركز العصبية والنار التي تشعل جذوتها ، والرمز الأشد دلالة وقوة على احتفاظ العصبية بعنفوانها وقوتها واشتراطاتها الأولية وبنيانها الأساس النقي من الشوائب ، ولذا تحرص العصبية على تسييج المرأة داخل أطرها ، وفي قضبان القبول المشروط والطاعة المطلقة لقيم العصبية وإلا نبذتها الأخيرة خارج جنتها ! فيما تتنازع المرأة وتتجاذبها ثنائية التقديس\التأثيم ، فترتفع إلى منزلة التقديس والمكانة الرفيعة إذا ما ألتزمت باشتراطات العصبية ، وإلا رميت في أتون التأثيم والشيطنة وكافة مفردات الاستباحة المعنوية إذا ما تجرأت على الخروج على قيم العصبية وثقافتها ، فخروج المرأة هنا على القيم الاجتماعية يصيب الذات العصبية في عمقها النرجسي بجرح يصعب البرء منه .
من زاوية أخرى يعطي حجب الصورة وإخفاءها المرأة فرصة لاستراق فرجة تستطيع معها مراوغة الثقافة الصارمة وقيم التقليد ، مستخدمة ذات السلاح الذي تستخدمه الثقافة في نفيها وشطبها، فتحت جناحي التخفي لا يمكن التعرف على هويتها الحقيقية ، ولا يمكن بأي حال إدانتها فهي هنا كيان زئبقي مجهول لا ترتبط هويتها بملامح ، ولذا قد تنتحل اسما أو شخصية مغايرة في مواقع التواصل لتقول ما يحلو لها من آراء جريئة بعيدا عن سطوة الثقافة .وحتى في حالات التصريح بالاسم الحقيقي، فإن التخفي هنا وراء ستار الحجب والرؤية وعدم الارتباط بملامح ، قد يحقن المرأة بالشجاعة والجرأة في التصريح بالرأي كعامل نفسي تعويضي عن الحضور الكامل ، وكعامل تحدي للثقافة الطاردة للمرأة ، برفع الصوت عاليا بالرأي الشجاع الصريح الذي يؤكد الوجود ويثبته حتى لو كان من وراء ستار .
كما يلعب التخفي والغموض على أوتار الخيال عند الرجل ، وكعنصر جاذب في العلاقات ” المعقدة وغير السوية ” بين الرجال والنساء ، على عكس الإظهار والوضوح الذي يكبح جماح الخيال ، لتمارس بعض النساء ألاعيبهن بإظهار صورة مغرية للعينين -قد لا تكون لصاحبة الحساب نفسها في مواقع التواصل -، أو لتضع لقطة لجزء من الجسد كما نراها في بعض الحسابات التي تزعم أنها لفتيات سعوديات خاصة في الانستجرام ! وهنا يتضح كيفية تحول الحجر والمنع إلى قوة دافعة للتمرد على كافة الأطر التقليدية في حال الابتعاد عن أعين الرقيب ، أو في حال الابتعاد إلى منطقة (افتراضية) نائية لا يستطيع فيها – الرقيب -أن يمارس سطوته ويفرض عقوباته ! وهنا نستطيع أن نضع أيدينا على المفارقة الصارخة التناقض التي تحول المبالغة في الحجب والإخفاء ، إلى مبالغة في الكشف والإظهار ، مما يؤكد تجذر النظرة التشيئية للذات عند المرأة نفسها ، فلا تستطيع أن تنظر لذاتها وكينونتها إلا من خلال تلك النظرة التي غذتها الثقافة بها.
تشجع الثقافة والقيم الاجتماعية أيضا على تكريس النفاق واستمراء النمط الازدواجي في الممارسات الحياتية ، فما هو جائز مقبول ولا حرج فيه خارج المملكة ، تابو محرم ويستحيل قبوله في الداخل ! فكما هو معلوم فإن شريحة كبيرة ممن يكشفن وجوههن خارج المملكة ، لا تزال الصورة الفوتوغرافية تدخل في طور المحرمات بالنسبة لهن في الداخل، حرصا على العائلة والعصب أو خوفا من القيل والقال ، وقد تكون رغبة في استثمار وحصد المنافع الناتجة عن البقاء في حظيرة التقليد من جانب آخر ! بل إن شخصيات عامة تتقلد مناصبا اعتبارية ، وتُعرف بتوجهها التحرري ( الليبرالي ) ، لا تستطيع أن تنشر صورها الفوتوغرافية رغبة في احتواء غضب تيار التقليد ، وامتصاص الرفض الاجتماعي من جهة ، وخوفا من سياط الألسنة ورجم الثقافة، والإدراج تحت تصنيفات منبوذة من الشريحة الأكبر في المجتمع من ناحية أخرى !
لكل الأسباب الآنفة المذكورة في مقالي ، من منا من النساء السعوديات لم تنمو داخلها بذرة الخوف- بل والرعب – من تسريب صورة لها لا تعلم عنها ؟! أو أخذ لقطة لها على حين غرة ومن حيث لا تدري لتسقط في بئر العار العميقة القرار ؛ حيث يلفظها المجتمع وتزدريها الثقافة ؛ فقد انتفت عنها صفة العقل والرصانة وانضمت لحزب المستهترات غير المباليات بالسمعة .. وما أدراك ما السمعة في مجتمعات تختزل الشرف في أجساد نسائها ، وتبقى المرأة فيها موضوعا جنسيا مهما تقدمت في العمر ، أو مهما بلغت من مركز علمي أو مكانة اجتماعية ! .. لهذا تحتاج المرأة إلى استجماع الكثير من الشجاعة والثقة بالنفس لتنشر صورتها ، كونها تعلم مسبقا ما سيجره ذلك عليها من تبعات !
ورغم أن المرأة تظل مسكونة بكثير من هذه المخاوف المتجذرة في عقلها اللاواعي ، إلا أن التغيير يفرض نفسه ،والمستقبل سيحمل لنا مزيدا من التفكيك لقضية الصورة وحضور المرأة السعودية في مشهدنا الاجتماعي الثقافي .
أمل زاهد